الجوع



ثارت عليهم صرخاتها الحارقة وراحت تؤنبهم وتلقي اللوم في وجوههم الصامتة..تدفع قلبها بيدها اليمنى وكأنها تمنعه من تنفيذ قرار قد اتخذه،،تستند على جدار شرفتها الخارجية بيدها الأخرى حيث لا تقوَ قدماها على حمل أنفاسها المهلهلة.
كيف تركتموه يخرج وحده؟وكيف غفلتْ أعينكم عن مراقبته؟وكيف فتح الباب دون أن تلاحظونه؟!
هرعوا في سرعة وفزع للبحث عنه بينما هي لم تقوَ على الانتظار, ورغم محاولات جارتها لتهدئتها وإقناعها بالمكوث فهي لن تستطع فعل المزيد,,إلا أن أجزاءها أسرعت _الواحدة تلو الأخرى_تركض نحو الخارج بعد أن هوَت نبضاتها من شرفتها للبحث عن ولدها هنا وهناك.
----------------------------------..
واحد...اثنان...ثلاثة_،،،_واحد اثنان ثلاثة...سبعة...أربعة...تسعة
أنا سعيد جدا لأنني أعدُّ حبات الرمال دون أن يوبخني أحدهم... أغبياء..هم يحسبون أنني ألهو بها، لكنني أعدها فقط كي أعرف كم هي؟؟،،، واحد..اثنان ...ثلاثة...سبعة...أربعة...تسعة_
يا إلهي ،،،،إنها كثييييييرة جدا ولا تزيد عن التسع حبات... وقد تعبت من عدها......
أريد بعض الماء ،،،الجو حار جدا
نظرات تنم عن سعادة مفاجئة...ثم أنفاس لاهثة...ثم كلمات قد لا يفهمها آدمي...وليس قطة!!!
كم تلك القطة المنقطة جميلة...سأذهب للعب معها
ما اسمك يا قطة؟؟أنا عليّ
لماذا تنظرين لي هكذا وتصمتين؟؟ألا تعرفين اسمك!!!!
لا عليكِ...هيا نلعب سويا لعبة القطة والفأر....كما كان يلعبها الأطفال في الشارع المجاور هناك...نعم هناك عند منزلنا...كنتُ أشاهدهم من الشرفة...هيا نلعبها معاً،،أنا القطة وأنتِ الفأر
تباً،،،حتى القطة المنقطة...تركتني ومضت ورفضت اللعب معي...هي أيضاً غبية...مثلهم...أنا لا أحبها
سأذهب لألعب في ذاك الشارع المضيء ...وأتركها هنا في الظلام...وسأضربها بشدة لو لحقت بي
نعم سأضربكِ لو لحقتِ بي وأجعلكِ تبكين...هل فهمتِ!!!!
---------------------------------...
تنهال دموعها لتحجب عنها وضوح الرؤية،تعترض نبراتها المتلعثمة مسيرة كل العابرين والواقفين على جنبات الطريق في ذاك الوقت
أرأيت طفلا في العاشرة ...قصيرا بدينا ذا وجه متسع دائري وأنف مضغوطة...يرتدي سترة زرقاء ويسير بمفرده من هنا؟
وحيث أبدا لا إجابة تشفي عليلها,كانت أنظارها تبحث عنه في كل مكان_بين الأزقة_على الأرصفة_قلب أعين المارة_وداخل السيارات.
-------------------------------...
لا تقلقي يا سيدتي، فأنتِ بخير والجنين بداخلك يتنفس بانتظام_ولكن!!
ولكن ماذا يادكتور؟
قد لا يولد طفلك في حالة طبيعية
قاطعته قبل أن يكمل برعشة منكسرة
كنت أعلم على غير يقين
عاد ليكمل آسفاً :::
غالباً وقد قلت لك من قبل،،قد يعود الحمل_ بعد سن الثلاثين_ بالأثر السلبي على الجنين وقد يكون على الأم أيضاً..ولكني أؤكد أنكِ بخير..وتستطيعين القيام بمهام صعبة تنتظرك بعد وضع طفل سيكون له احتياجات من نوع خاص.
-------------------------------..
صعد الحزن على أكتافها حتى بلغ مراده وراحت دمعاتها تحكي ما بداخلها من وجع
لمَ ترك المنزل ومضى حيث مضى!!لمَ خرج وحده!! هي المرة الأولى التي يفعل فيها مثل تلك الفعلة
لابد وأن أحدهم ضايقه بكلمة أو فعل ...أعلم أنهم لا يُقدرون...أعلم أنهم يكرهونه
ترى لأين ذهب وماذا أصابه!!
ثم أتبعت صارخة،،،_حتى أن رواد الشارع جميعهم تعاطفوا معها وراحوا يبحثون عنه :::::
أين أنت يا ولدي أين أنت؟
-----------------------------..
ابتسامات بلا هوية..ثم همهمة عالية بعض الشيء حتى أنها اجتذبت أنظار الناس من حوله
السير وسط تلك الأضواء المبهجة، والسيارات، والناس كثيرون، شيء يفرح القلب_آآآه ... الآن فقط عرفت سبب سعادة إخوتي عند عودتهم للمنزل ليلا_ ولطالما حلمت أن أخرج وحدي مثلهم دون قيود أمي وقيودهم،،
ثم أتبع بصوت غاضب مرتفع حتى أن كل من كان يسير بقربه انتفض وابتعد عن طريقه خوفاً منه:
لكم مللت غضبهم الدائم مني، وخجلهم من التواجد معي بمكان، وحصار أمي المريض الغبي
ثم جلس على أرض الطريق متربعاً...وقال مبتسما حالماً:::
كم حلمت أن ألعب الكرة مع أطفال الجيران أمام منزلنا...ولكنهم...ولكنهم أغبياء..هم أيضا لا يحبون اللعب معي،،رغم أنني أتقن لعب الكرة..نعم أتقنها
ثم ألقى بحجر في الهواء وأمال بجسده كي يلتقطه قائلا:::
وهل يستطيع أحدهم أن يلقف الكرة هكذا؟!!!!!
وبعد أن اصطدم الحجر برأسه صاح غاضبا:::
ما أغباك من حجر...
راح ينظر للسيارات وكأنها لعبات صغيرة تدور في دائرة لا نهاية لها،،ثم عاد بعد تأمله ليكتشف من جديد أنه وحده بين الطرقات كما كان يحلم دوما
فتخرج فرحة صادقة صافية من عينيه الزائغتين و فمه المفتوح وهو يقول:::
وها أنا أحقق أحلامي_فأنا لست فاشلا كما يزعمون،،وأستطيع أن أحقق أحلامي وحدي..
-----------------------------------...
كم أنا فاشلة،، ومقصرة في حقه،كان يحتاج مني لمزيد من العناية ،،كان يجب عليّ أن أهتم به أكثر،كنتُ أنا من يجب أن تراقبه دوما ،ولا أعتمد على إخوته ،فأنا أعلم جيدا ما يختبئ بسريرتهم.
أخذني عملي منه وتركته كثيرا وقت كان في حاجة إليّ،،،تركته لمن لا يقدرون احتياجه لحنانهم......لماذا!!
لماذا دوما يشعرون به حملا ثقيلا فوق أنفاسهم،أليس أخيهم؟ويحتاج جزءا من رعايتهم وحمايتهم وحبهم أيضا...سامحهم الله!!!فالكلمات لا تجدي معهم...والعظات ليست لمثلهم...أصحاب القلوب اللا مبالية
ترى أين أنت يا عليّ! عد إليَّ يا ولدي وارحم قلبا بداخلي يتألم.
------------------------------...
أخذته خطواته العبثية حتى هنا_متجر لألعاب الأطفال:::
أريد بعض الماء البارد،،،الجو حار
لا بل إني جائع .........ولكن لا يوجد هنا طعام
هنا....هنا....هنا لعب جميلة وأطفال أجمل...لستُ جميلاً مثلهم....نعم
لذلك لا يحبني إخوتي؟؟ولم يقدموا لي يوما لعبة مثل تلك؟؟....ربما!!!
ألذلك أيضاً أبت أمي أن تُدخلني إلى هنا؟!!
هنا....هنا أيضا كرات جميلة ملونة،،ها هي...أريد واحدة،، أريد واحدة...سأدخل لالتقاط واحدة ثم ألعب بها وحدي......
ماذا تفعل يا ولد؟أين نقودك ؟!!
ولا إجابة سوى تلك النظرات الزائغة التي لا تحمل لمن يراها سوى اللا شيء
أخرج من هنا هيا...أخرج ...
-------------------------------...
راحت دمعاتها تتذكر وجهه البريء وتبحث عنه بين ملامح الأطفال في متجر اللعب عبر تلك النافذة الزجاجية:::
أمي...ماهذا المكان الجميل؟
أنه متجر للعب ...لعب الأطفال
هيا ندخل إلي هناك إذن...
فيما بعد يا عليّ...أنا على عجلة ولم يعد أمامي متسع من الوقت،،،
لا تعطلني أكثر
عاودت زهرة الوجع بداخلها...لتفرز رحيقها من جديد،،،
لست أماً.....سامحني يا عليّ
أين ذهبت يا ولدي؟وكيف أنت؟ توحشتك كثيرا
-----------------------------...
هل تعلمون لماذا غادر عليّ المنزل؟
قال الأخ الأصغر...لأنه غبي...طبعاً
ثم عاود قائلاً:::
لا بل ليجعلنا نبحث عنه طوال الليلة، هو هكذا لا يجلب لنا سوى المتاعب
قاطعهم الأخ الأكبر قائلاً:::
بل رحل ليبحث عن طعام لأنه جائع....نعم
خرج باحثاً عن حنان لم يجده بيننا...خرج عندما سنحت له الفرصة ووجدنا عنه معرضين..خرج هاربا من جفاف لمسه بداخلنا...
أتذكرون يوما من ألف يوم؟؟!!!::::


اسمع يا عليّ لو جلست في غرفتك هنا ولم تخرج أبدا لأحضرت لكَ قطع الحلوى التي تحبها
بل أريد أن أخرج وأجلس معكم..أنتم وأصدقاءكم
أنت تثير ضجيجا وأفعالا مقززة يا علي أينما تجلس ،،اسمع ما أقوله لك
لا... سأخرج وأجلس معكم...لا أحب الجلوس وحدي...
هكذا؟إذن لو خرجت من الغرفة سأضربك بشدة وأجعلك تبكي...هل فهمت!!

كم كنّا قاسين عليه عندما كنا نضربه...نحن لا نصلح إخوة له..لا بد وأنه يكرهنا كما نعامله معاملة جافة
هبّ شيء خفي بقوة ليدفع بهم راكضين..هنا وهناك،،يقطع نداءهم خيوط الضوضاء بالشوارع المزدحمة
أين أنت يا عليّ....عد يا عليّ.....أين أنت يا أخي
------------------------------
انتبهي،، فعلي ّيحتاج منكِ لرعاية خاصة وكثيرا من الجهد...كي ترتقي بمستوى تفكيره وتنمية قدراته على التعلم والنطق السليم ..و مع الوقت سيصل إلى مستوى عقلي مقبول جدا وسيتقارب مع الأطفال الطبيعين من نفس عمره...
وهذا سيتطلب منكِ ومن جميع أفراد الأسرة والمحيطين به جهداً كبيراً،،،فقط لا تهملي الأمر والنتائج عندئذ سترضي الجميع... لأن عليّ يحمل استعدادا قويا للتعلم والفهم ...يتجلى في نظراته الناطقة تلك
غير أنه يمتلك حِسّاً مرهفاً قد لا نجده بين أطفال عاديين من نفس سنه
ابتسم عليّ فَرَحا،، تُلقي نظراته على طبيبه المعالج أوسمة التحية..وعبارات الإعجاب بفطنته وروحه لأنه الوحيد في هذا العالم الذي يفهمه...ويشعر به
ثم أردف الطبيب في ابتسامة::::
أراكِ لاحقاً... في انتظاركَ يا عليّ
شكرا يا دكتور،،،هيا بنا يا عليّ
----------------------------...
أين أنت يا أمي.؟إني جائع ،،وتعبت من كثرة السير
كما أنني توحشتك كثيراً...أريد أن أعود للمنزل
ولكن كيف؟؟لا أعرف كيف العودة؟؟
نظرات فقدت صوابها تفشل في تحديد مكان لها تتوه بين أعين كل المارة،،هائمة على وجهها دون ملجأ أو عنوان:::ثم كلمات متكسرة غير واضحة المعالم للجميع:::
...ياعم...أريد أن أعود للمنزل
ماذا تقول؟؟،،،لا أفهمك!!
أريد أن أعود لأمي...هناك عند منزلنا...ألا تعرفه أنت أيضاً!!
ترى ماذا يقول هذا الولد الغريب،، وما الذي يجعله يمشي بمفرده هكذا ،،ليتني أعلم عمّ يتحدث!!
ظل يسير وحده بلا هدف يتحدث ولا أحد يفهمه ممن تحركت لديهم مشاعر الشفقة عليه ..يبتعد عنه البعض الآخر ناظرين إليه بازدراء واشمئزاز...
هذا الرجل يشبه صورة والدي،،لابد وأن ابنته تلك التي تصاحبه تنعم بحياة هانئة
لو كان أبي على قيد الحياة لكنت خرجت بصحبته///أين أنتِ يا أمي؟؟؟
إني جائع
---------------------...
تعالى الصراخ ليلف المكان بكل ما يحتويه
أين أنت يا علي؟؟؟؟ أكاد أموت بدونك
أين ذهبت يا صغيري
-----------------------...
ركض مسرعاً نحوها عندما دلّ نداءها الملهوف على مكانها بالقرب منه
ركض معلنا عن وجوده بقربها وسط الزحام
أمي.....ها هي!!!
وصوت السيارات والضوضاء ونداءاتها العالية كلها حوائل بينها وبين نداءه
نبضات فرح لاهثة وخطوات مسرعة غير منتظمة بلا حارس أو أمين..هدفها فقط اللحاق بأمه قبل أن تغيب عن أنظاره ::::
سيارات ذات عجلات همجية تعدو هنا وهناك دون حاكم لها...لتأتي أحدها فتعترض طريق ركضه العفوي
وكأنها تأبى وصوله لغايته...وفجأة.....يكبح سائقها جماحها المنطلقة_ لتصدر صوتا عالياً يستدعي الأم الباحثة عن ولدها الصغير،،يمتزج بنداء خائف مُشوّش
أمي....أمي
فتقف مجبرة ناظرة وراءها لترى صغيرها يقف أمام السيارة وقد ابتلت ملابسه خوفاً....وجموع الناس تجتمع للإطمئنان عليه....ركضت وكأنما تطوي الأرض تحت قدميها في خطوة واحدة
ضمته بين ضلوعها الحارة المتلهفة عليه...ثم قالت صارخة:::
ولدي..صغيري...هل أنت بخير!!!
لماذا فعلت ذلك يا عليّ...أو هكذا تترك أمك التي تحبك ،،وتمضي وحدك دون أن تخبرها
أخبرني لماذا خرجت وحدك؟؟؟؟
أجابها بنظرة تائهة خافتة::::
إني جائع جداً